الثلاثاء، 17 مارس 2015

المؤتمر الاقتصادى وقانون الاستثمار واعتبارات التنمية والعدالة









أحمد السيد النجار
حققت مصر هدفا أساسيا من مؤتمرها الاقتصادى فى شرم الشيخ، وهو تقديم صورة حقيقية عن إمكاناتها وسوقها الضخمة وفرص الاستثمار المتنوعة والآمنة والمربحة فيها.
كما حصلت على تعهدات بالمساندة المالية وبالاستثمار فى العديد من قطاعات الاقتصاد بأحجام كبيرة تفوق كل التوقعات، وإن كان من الضرورى التعامل بصورة علمية مع فيض الأرقام الذى تم نشره أثناء انعقاد المؤتمر والذى يتضمن الكثير من التعهدات وليس التعاقدات أو الاتفاقات، خاصة وأن الدول الغنية تعهدت من قبل فى عام 2011 بتقديم مساعدات ضخمة لمصر وتونس (38 مليار دولار) بعد إسقاط الشعبين فيهما لنظامى مبارك وبن علي، لكن تلك الدول لم تف بأية وعود. وعلى سبيل المثال فإن الاتفاق مع شركة بريتش بتروليم للتنقيب عن النفط واستكشافه بقيمة 12 مليار دولار تعنى أن الشركة حصلت على امتياز لهذه الأعمال فى منطقة محددة وتعهدت بإنفاق هذا المبلغ على عمليات التنقيب والاستكشاف خلال مدة ..
معينة قد تكون 10 سنوات أو 15 عاما أو أكثر من ذلك حسب شروط الاتفاق. وبالتالى فإن المبلغ المشار إليه يتم توزيعه على عدد سنوات امتياز التنقيب والاستكشاف. ونفس الأمر ينطبق على الاتفاق مع شركة إينى الإيطالية وغيره من الاتفاقات التى تم التوصل إليها.
ومن المؤكد أن مؤتمر شرم الشيخ قد ساهم بالفعل فى خلق حالة انطباعية إقليميا ودوليا تتسم بالإيجابية ومفادها أن مصر بلد يتجه نحو الانطلاق الاقتصادي. ويعزز من ذلك البيانات التى تشير إلى أن معدل النمو المسجل فى النصف الأول من العام المالى الحالى تجاوز 5,6% وفقا للبيانات الرسمية المصرية. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى إلى أن معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى المصرى سيبلغ 3,7% عام 2015، مقارنة بنحو 2% فى عام 2014، وهى تقديرات سيتم تعديلها على الأرجح لمستوى أعلى على ضوء تحسن الأداء الاقتصادى والحراك الذى خلقه مشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس، والحراك الاستثمارى المتوقع بعد مؤتمر شرم الشيخ، ومن البديهى ان مرحلة ما بعد المؤتمر تتطلب عملا مضنيا لمتابعة تنفيذ واستكمال كل ما تم الاتفاق عليه مبدئيا أو تعاقديا. وصحيح أن رفع معدل النمو الاقتصادى وتنويع الاقتصاد وتطويره وخلق فرص جديدة للعمل هى أهداف أساسية لعملية استنهاض الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، إلا أن ذلك لابد أن يكون مستندا إلى قواعد العدالة والتكافؤ فى العلاقة بين الدولة وهؤلاء المستثمرين، ومقترنا بسياسات توزع ثمار التنمية الاقتصادية بشكل عادل أو بمعنى آخر تحقق العدالة الاجتماعية التى هى أحد الأهداف الرئيسية لثورة 25 يناير 2011 وموجتها الثانية فى 30 يونيو 2013.
وقبل المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ بيوم واحد استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسى السلطة التشريعية التى يملكها فى غياب البرلمان وأصدر قانون الاستثمار الجديد ونشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ 12 مارس. وهذا القانون ينتصر لنموذج الاقتصاد الحر. وهذا النموذج لا يختلف عن النموذج الذى تبناه نظام مبارك فى العشرين عاما الأخيرة لحكمه، إلا فى إقرار تيسيرات حقيقية فى تأسيس الأعمال عبر نظام الشباك الواحد الحقيقي، وفى التخارج منها. وهذه التيسيرات مطلوبة للمستثمرين المحليين وغير المصريين أيا كانت أحجام أعمالهم وتشكل الجانب الإيجابى فى قانون الاستثمار. لكن الإطار العام لهذا النموذج هو تقديم كل التسهيلات لرجال الأعمال للتوسع فى الأعمال وتحسين ربحيتها من خلال الميزات التى تقدم لها اعتمادا على أن إنشاء الأعمال الجديدة وخلق فرص العمل من خلالها سيؤدى إلى تساقط ثمار النمو الاقتصادى تلقائيا على الفقراء والطبقة الوسطي. و»نظرية التساقط» تلك ثبت فشلها فى الواقع العملى فى معالجة الآثار الاجتماعية السلبية لنموذج الاقتصاد الحر، والمتمثلة فى تزايد عجز الموازنة العامة للدولة نتيجة التوسع فى الإعفاءات الضريبية والجمركية للرأسماليين وشركاتهم، وتزايد الفقر واتساع نطاقه، مقابل تزايد الثراء الفاحش للطبقة العليا واتساع الهوة بين الطبقات وانتشار الاحتكار والأسعار الاحتكارية. لذا فإنه من الضرورى أن يقترن تبنى هذا النموذج باعتماد سلة من السياسات الاقتصادية-الاجتماعية التى تعالج الجوانب السلبية له. ورغم أهمية النمو الاقتصادى والدخول إلى درب النمو السريع، إلا أن العدالة الاجتماعية تشكل واحدة من الضمانات الأساسية لاستدامة هذا النمو، حيث أنه كلما زادت عدالة توزيع الدخل تتحسن ظروف الفئات الأدنى دخلا التى تحول دخلها على طلب فعال على السلع والخدمات، مما يحفز القطاع الخاص والعام على إنشاء مشروعات جديدة لتلبية هذا الطلب، وهو ما يعنى توظيف عاملين جدد وتوزيع دخول عليهم تتحول بدورها إلى طلب فعال على السلع والخدمات بما يحفز إلى تأسيس مشروعات جديدة، وهو ما يُطلق عليه مضاعف الاستثمار، الذى يشكل عنصرا جوهريا ومحركا إلى دورة نمو وازدهار اقتصادي. وهنا تخرج تلك العدالة من كونها ضرورة اجتماعية لتحقيق التراضى والسلام الاجتماعي، إلى كونها قاعدة أساسية لاستمرار واستدامة النمو الاقتصادي.
وتعتبر القواعد الأساسية لبناء العدالة الاجتماعية هى تمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة من خلال توفير فرص العمل المناسبة لمؤهلاتهم وقدراتهم، واعتماد نظام عادل للأجور يضمن للعاملين حياة كريمة، ويضمن تحرك الأجور بمعدلات تعادل أو تتجاوز معدلات التضخم للحفاظ على القدرة الشرائية للأجور أو تحسينها. كما تتضمن قواعد العدالة الاجتماعية بناء نظم عامة للرعاية الصحية والتعليمية للفقراء ومحدودى الدخل وحتى للطبقة الوسطى بصورة مجانية أو بأسعار رمزية. كما تتضمن بناء نظام ضريبى شامل لكل الأوعية ومتعدد الشرائح وتصاعدى على الدخل وعلى أرباح الشركات بما يسهم فى إعادة وتحسين توزيع الدخل وتمويل المالية العامة للدولة. والحقيقة أن التحرك باتجاه تحسين قواعد العدالة فى النظام الضريبى بات مهددا بما أعلن عن وزير المالية من تخفيض الشريحة العليا للضريبة على الدخل بالنسبة للأثرياء من 30% لمن يتجاوز دخله مليون جنيه فى العام إلى 22.5% فقط، علما بأن المعدل فى الدول الرأسمالية المتقدمة والنامية والجاذبة للاستثمارات يتجاوز المستوى الراهن المراد تخفيضه بكثير، فالشريحة العليا من الضريبة على الدخل تبلغ 62% فى الدنمارك، و 57% فى السويد، و50% فى اليابان، و45% فى الصين، و 35% فى تركيا، و 37% فى تايلاند، و40% فى كوريا الجنوبية، و40% فى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. كما تتضمن قواعد العدالة الاجتماعية ضبط الأسعار فى السوق بصورة ترتبط بتكلفة إنتاج السلع والخدمات ومكافحة الممارسات الاحتكارية لضمان أسعار عادلة للسلع تخلق توازنا فى المصالح بين المنتجين والتجار من جهة والمستهلكين من جهة أخري. كما تتضمن قواعد العدالة الاجتماعية قيام الحكومة بتقديم تمويلات اجتماعية للفقراء، وبناء نظام للدعم السلعى أو النقدى للفقراء ومحدودى الدخل.
ويعد مشروع بناء عاصمة إدارية جديدة لمصر هو أكبر المشروعات التى تم الاتفاق المبدئى عليها فى شرم الشيخ. وتلك العاصمة هى حلم قديم لتخفيف الضغط السكانى الهائل عن القاهرة التى تنوء بنيتها الأساسية بأعباء العدد الهائل من قاطنيها، خاصة أن تلك البنية الأساسية وعمليات تجديدها لم تتسم بالكفاءة والنزاهة، وهو ما يظهر واضحا فى ظهور المشكلات فى الطرق وشبكات المياه والصرف فى مراحل مبكرة قبل عمرها الافتراضى بكثير. لكن الاستثمارات الضخمة المخصصة لبناء هذه العاصمة الجديدة(45 مليار دولار)، كان من الأفضل أن توجه لبناء شبكة من المشروعات الصناعية فى مدن صناعية تتوطن فى مواقع موارد الثروة المعدنية والمحجرية، وعلى تخوم مناطق الإنتاج الزراعى الكبير القابل للتصنيع، وبالذات من الخضر والفاكهة، وفى مناطق الشواطئ الشمالية لاستغلال إمكاناتها فى الاستزراع السمكى فى البحار وما يقوم عليها من صناعات تجهيز وتعليب، وفى صناعة السفن وصيانتها، وعلى السواحل الشرقية لبناء صناعات أسمدة ومعادن وتكرير للنفط اعتمادا على قاعدة المواد الخام المحلية والمواد المستوردة من الدول العربية وإفريقيا.
كما أن قيام شركة غير مصرية بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة يطرح العديد من التساؤلات التى يحق للمواطن معرفة الإجابة عنها، فقانون الاستثمار الجديد، الذى أصدره الرئيس يعطى لغير المصريين الحق فى تملك الأراضى والعقارات، فهل ستكون أراضى العاصمة مملوكة للشركة قبل أن تبيعها لمن سيشترون العقارات فيها؟ وما هو ثمن الحصول على أراضى الدولة فى هذا المشروع؟
وتعد مسألة ملكية غير المصريين للأراضى فى مصر أحد الأمور التى تحتاج لإعادة النظر فى قانون الاستثمار، فينبغى استثناء الأراضى الزراعية بصورة مطلقة، علما بأنه فى العهد الملكى عام 1951 صدر قانون يحرم ملكية غير المصريين للأراضى الزراعية. أما بالنسبة لأراضى التنمية العقارية والصناعية فإن الفضل هو العمل بنظام حق الانتفاع لغير المصريين.
وقد تكون هناك ملاحظات أو تحفظات على الكرم الكبير فيما تقدمه مصر للمستثمرين المحليين والعرب والأجانب من خلال قانون الاستثمار الجديد، لكنها تعنى فى الوقت نفسه أن لدينا بيئة مناصرة للمستثمرين بصورة مبالغ فيها لمصلحتهم. وهناك إجراءات مثل تخفيض ضرائب المبيعات على الآلات والمعدات وإعادتها للمستثمرين مع تقديم أول إقرار ضريبي، وتخفيض الرسوم الجمركية على واردات الآلات والمعدات إلى 2% تلقى قبولا عاما باعتبارها عاملا ميسرا لحركة التصنيع، شرط ان يتم ضبط ما يندرج تحت هذا البند ومنع استخدامه للتهرب الضريبى والجمركي. وعلى سبيل المثال فإن المالية العامة للدولة تخسر قرابة 3.5 مليار جنيه سنويا بسبب الإعفاءات المقدمة لمكونات السيارات التى يتم تجميعها فى مصر رغم أنها ليست صناعة حقيقية للسيارات بل مجرد «صناعات» مفك يتم من خلالها تجميع ما تم تصنيعه فى الخارج والحصول على إعفاءات جمركية بلا مبرر.
كما أن القانون يسمح باستخدام العمالة الأجنبية دون تحديد نسبة قصوى لهذه العمالة، بما يتناقض مع أحد الأهداف الرئيسية من استقطاب أى استثمارات أجنبية، وهو خلق فرص للعمل للعمالة المصرية. كما أنه يسمح لتلك العمالة بتحويل كل دخلها دون وضع نسبة قصوى لهذا التحويل، رغم أنه من البديهى انها ستستهلك جزءا من دخلها فى الطعام والشراب والملبس والمسكن والانتقالات والاتصالات. وفى المادة 20 مكرر يعطى القانون لمجلس الوزراء سلطة منح مميزات للشركات كثيفة الاستخدام للعمالة تتضمن الحصول على الطاقة بأسعار مخفضة وتحمل الدول جزءا من تكاليف تدريب العاملين. كما تتضمن تحمل الدولة حصة العامل ورب العمل فى التأمينات لمدة محددة. وهذا الأمر بالذات يثير التساؤل حول ازدواجية المعايير، فعلى سبيل المثال تتسم المؤسسات الصحفية القومية وهى مملوكة للدولة بالكامل، بالاستخدام الكثيف للعمالة ورغم ذلك يتم التعامل معها بشكل قاس فى حالة تأخرها اضطراريا عن دفع التأمينات ولو لعدة شهور، فيتم إيقاف الترخيص لسياراتها. وحقوق التأمينات لا جدال فيها، لكن بما أن الدولة لديها هذا الاستعداد لتحمل حصة العامل ورب العمل فى التأمينات لمشروعات خاصة فالأولى بها أن تفعل ذلك لمؤسساتها فى الأوقات التى تتعرض فيها لظروف ضاغطة.
وعودة للموضوع الأصلى وهو مؤتمر شرم الشيخ يمكن القول إجمالا إنه نجح على الصعيد السياسى وخلق صورة انطباعية متميزة عن مصر. أما على الصعيد الاقتصادى فإن هناك عددا كبيرا من الاتفاقيات المبدئية التى تحتاج لبذل جهد جبار ومتواصل لاستكمال ما تم الاتفاق عليه وتنفيذه، مع أهمية إدراك أن الاقتصادات تبنى بسواعد وعقول وأموال أبنائها بالأساس، ومشاركات الأجانب هى عوامل مساندة، بما يستدعى اتخاذ كل الإجراءات لحفز المدخرات والاستثمارات المحلية الصغيرة والتعاونية المتوسطة والكبيرة، وتشجيع المصريين العاملين بالخارج على المشاركة بفعالية فى ضخ الاستثمارات لبلدهم مع ضمان الدولة لتلك الاستثمارات. وسوف تتمكن مصر على الأرجح من دخول درب النمو السريع لو تمكنت من توظيف الصورة الراهنة لمصر واقتصادها من خلال إدارة الملف الاقتصادى بكفاءة ومرونة، لكن اعتبارات العدالة الاجتماعية لن تتحقق تلقائيا، بل تتطلب إجراءات وسياسات وتعديلات تشريعية فى بلد كانت تلك العدالة سببا رئيسيا فى ثورته ضد الظلم الاجتماعى والفساد والقمع، وستظل هاجسا لشعب طامح للحرية والكرامة والتنمية والعدالة.