الدكتور طه عبد العليم
فى سياق
ما طرحته بشأن استراتيجية تصنيع مصر، أحاول فى هذا المقال الإجابة عن سؤالين مهمين،
أولهما، هل صحيح أن الصناعات الصغيرة ليست جميلة دائما؟ وهل صحيح أنها إلى زوال؟ والأمر
أن الدراسات الأكاديمية والبحوث التطبيقية قد حفلت بنظريات واستنتاجات تقلل من مكانة
الصناعات الصغيرة والمتوسطة, انطلاقا من اعتبار الحجم محددا لمستوى إنتاجية وتنافسية
المشروع ...
وانطلقت النظريات التقليدية من حقيقة أن كبر حجم المشروع يسمح بخفض تكاليف
الإنتاج وأسعار المنتجات، حيث يسمح ما يسمى وفورات الحجم أو النطاق. بتحقيق أرباح أعلي,
ويتيح فرصا أوسع لاستخدام التكنولوجيات الأكثر حداثة والعمالة الأكثر مهارة.
وفى
الإجابة عن السؤالين المطروحين، أسجل أولا أنه لا خلاف أن الحجم الأمثل للمشروع تحدده
الخصائص التكنولوجية وطبيعة النشاط الإنتاجى للمشروع الصناعي. وهكذا، على سبيل المثال،
فإنه لا يمكن إلا أن تكون كبيرة الحجم الصناعات التحويلية الثقيلة؛ لإنتاج الحديد والصلب
والآلات والمعدات ووسائل النقل من سيارات وقاطرات وسفن والألومنيوم والهياكل المعدنية
والأسمدة والأسمنت والغزل والنسيج والصباغة والبتروكيماويات وتكرير البترول والأجهزة
الكهربائية وأجهزة الحاسبات والاتصالات واللدائن والمراجل وغيرها، ويرتكز انطلاق التصنيع
إلى تأسيس وتعميق وتحديث هذه الصناعات الكبيرة، منخفضة ومتوسطة وراقية التكنولوجيا،
ومعها مشروعات الطاقة وغيرها من مشروعات البنية الأساسية الإنتاجية. وتعد هذه الصناعات-
دون ريب- رافعة بناء صناعة واقتصاد مترابطين على أسس وطنية من حيث الأساس، وبينها تمثل
صناعة بناء الآلات أساس إعادة بناء مجمل الاقتصاد ليصبح صناعيا متقدما. ولا ينفى هذا
ضرورات تطوير فروع الصناعة التحويلية التى تتجه إلى السوق الداخلية وإلى السوق الخارجية
فى آن واحد، وتلك التى تندمج من موقع متكافئ فى سلاسل الإنتاج العالمية أو ما يسمى
بالمصنع العالمي.
وثانيا،
أن تنمية وتحديث الصناعات الصغيرة والمتوسطة بروابطها الأمامية والخلفية، مع الصناعات
والكبيرة يمثل أهم المتغيرات فى عملية التصنيع على الصعيد العالمي، حيث تقوم بدور صناعات
مُكمِلة فتستخدم منتجات الغزل والنسيج والصباغة فى صناعة الملابس، مثلا، أو تقوم بدور
صناعات مغذية فتنتج مكونات لصناعة السيارات، مثلا. ويبين تقرير منظمة الأمم المتحدة
للتنمية الصناعية (اليونيدو) لعام 2013، أن تسارع التصنيع فى الاقتصادات الصناعية الصاعدة
ارتبط بزيادة العمالة فى المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة والعاملين لحسابهم الخاص
وفى القطاع غير الرسمي، الذين يمثلون ما يقرب من نصف العمالة فى الصناعة التحويلية،
وهو نصيب يتزايد. ويبين صندوق النقد العربى فى التقرير الاقتصادى العربى الموحد لعام
2014، أن نسبة المنشآت الصغيرة والمتوسطة تزيد على 90% من إجمالى منشآت الصناعات التحويلية
فى البلدان العربية.
وثالثا،
أن الصناعات الصغيرة والمتوسطة كانت نقطة الانطلاق وركيزة التطور فى تاريخ التصنيع،
ولم تكن بديلا عن الصناعات الكبيرة أو صورة مصغرة لها, كما لم تكن مرحلة انتقالية عابرة
فى التنمية الصناعية، ولا مجرد حلقة وسطى بين الصناعات الحرفية والكبيرة. فالصناعات
الصغيرة والمتوسطة؛ تمثل عنصرًا متممًا ومكملاَ ومغذيًا ومعززًا للصناعات الكبيرة،
وتزيد نسبة المكون المحلى باعتبارها صناعات مغذية لبعض منتجات الصناعات الكبيرة باعتبارها
مكونات لمنتج نهائي، وتمثل بهذا آلية أساسية لتحقيق التكامل الصناعى الوطني. وتنهض
الصناعات الصغيرة والمتوسطة بدور حاسم فى مكافحة البطالة وزيادة الاستثمار؛ لأنها تخلق
فرص عمل أكثر من استثمار ذات المبلغ فى مشروع صناعى كبير, وتزيد الاستثمار الأمثل للموارد
الوطنية والمدخرات الفردية، كما تسهم فى تحقيق عدالة توزيع الدخل القومى بين السكان
والتنمية المتوازنة بين الأقاليم، وقد تنهض بدور مهم فى التحديث التكنولوجى وبمعدلات
أسرع وتكاليف أقل من الصناعات الكبيرة.
ورابعا،
أن تنمية الصناعات الصغيرة والمتوسطة هدف مهم للسياسة الاجتماعية؛ باعتبارها وسيلة
فعالة لانتشار الصناعة جغرافيا، وأساسا لظهور طبقة متوسطة متنامية ومستقرة حيث تقوم
بدور مهم فى إتاحة فرص العمل لكل التخصصات وبكل مستويات المهارة. وتتسم هذه الصناعات
بانخفاض التكاليف الاستثمارية لإنشائها، وتسهم فى توفير النقد الأجنبى والحد من الاستيراد
بتوفير بدائل للمكونات الوسيطة والسلع الاستهلاكية المستوردة, وتتسم بالمرونة فى الاستجابة
للاحتياجات المتغيرة فى الأسواق، وتسهم فى إطلاق روح الإبداع والاختراع والابتكار فى
مجال تطوير القدرات الإنتاجية والخدمات اللازمة للصناعة التحويلية، وتعتمد اعتمادا
كبيرا على المواد الخام المحلية. ونظرا لاستقطاب مشروعاتها المتناهية الصغر لقوة عمل
منزلية وعائلية تحول العادات والتقاليد دون دخولها أسوق العمل الأخري، وبفضل دورها
فى الحفاظ على الموروث الصناعى الثقافى فى الحرفية والريفية اليدوية, وتلبى الطلب على
الأدوات والمستلزمات فى المجتمعات الريفية. وتزيد أهمية هذه الصناعات فى مواجهة مشكلات
الندرة النسبية لرأس المال، والعرض الزائد لقوة العمل، وانتشار العمل غير المنظم, وفائض
العمالة الريفية المهاجرة إلى المدن، والمشكلات الاجتماعية والأمنية فى المناطق العشوائية.
وخامسا،
أن انقلابا فى المفاهيم قد حدث فى سبعينيات القرن الماضى مع ظهور الشعار الأمريكي:
المشروع الصغير هو الأجمل، وذلك مع صمود المشروعات الصغيرة والمتوسطة أكثر من المشروعات
الكبيرة فى مواجهة الركود والانكماش الاقتصادي. ففى الولايات المتحدة الأمريكية بين
عامى 1974 و1984 وفرت المشروعات الصغيرة والمتوسطة 98% من فرص العمل الجديدة، واحتلت
الصناعات الصغيرة مكانا متميزا بينها. وفى اليابان أسهمت الصناعات الصغيرة بنحو
47.5% من الصادرات بين عامى 1975 و1985, وبلغت هذه المساهمة 33% فى الصناعات الإليكترونية،
وارتبط هذا بتطور بتخلى الصناعات الكبيرة بغرض خفض التكلفة عن إنتاج الكثير من المكونات
لتنتجها الصناعات الصغيرة الأكثر تخصصا؛ مثل لوحات التوزيع الإليكترونى والدوائر السليكونية
والترانزيستور والساعات وغيرها. وشهدت فى إيطاليا تطورا مبهرا للصناعات الصغيرة والمتوسطة
استحق أن يوصف بالمعجزة الإيطالية.
ويبقى
الحديث متصلا بشأن تعريف ووزن ومشكلات ومستقبل الصناعات الصغيرة والمتوسطة؛ وخاصة بعد
تكليف الرئيس السيسى للبنك المركزى بتوظيف إمكانات البنوك بمصر لتوفير 200 مليار جنيه
قروضا ميسرة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الخاصة بالشباب.
المصدر : هذا المقال نشر من قبل بجريدة الأهرام