بقلم : مهندس عمرو حجازي
نائب رئيس جمعية حقوق المضارين من الايجار القديم
كشفت المناقشات الساخنة التي شهدها البرلمان المصري على مدار اليومين الماضيين، 4 و5 مايو الجاري، حول مشروع قانون الإيجار القديم الذي تقدمت به الحكومة، عن تحولات لافتة في مواقف بعض نواب الشعب ...
فبعد عقود من التعثر التشريعي، بدأت تتضح الأسباب الكامنة وراء هذا الجمود الطويل، ولأول مرة، يبدو أن "عباءة المستأجر الفقير" التي طالما اختبأ خلفها البعض بدأت تنزلق، لتكشف عن دوافع قد لا تمت بصلة لمعاناة الأيتام والأرامل وأرباب المعاشات الذين كانوا دوماً عنواناً لتبرير استمرار الوضع القائم.
لعقود طويلة، كان درع "الفقراء والمحتاجين" هو الحجة الأبرز التي يرفعها المسؤولون والنواب «وكثير منهم، كما يُشاع، من المستفيدين بشكل مباشر بوحدات سكنية تخضع لقوانين الإيجار الاستثنائية» لتبرير عدم المساس بهذا الملف الشائك. كان الحديث دائماً عن التداعيات الاجتماعية، وعن مصير الأسر التي ستُشرد إذا ما تم إنهاء العمل بهذه القوانين.
لكن المفاجأة الصارخة في المناقشات الأخيرة، هي أننا بدأنا نسمع أصواتاً نيابية تتعالى ليس دفاعاً عن الفقير المعدم، بل عن "مستأجري المناطق الراقية". فجأة، تحول النقاش من "كيف نحمي الأرملة؟" إلى "كيف نطلب من مستأجر يسكن في المهندسين أو الزمالك أن ينتقل إلى مكان أقل شأناً لم يعتاد عليه؟". بل وصل الأمر بأحد النواب، في محاولة واضحة لدغدغة المشاعر، إلى التساؤل عن كيفية مطالبة "أمه وجدته" من سكان المهندسين بالانتقال إلى حي الأسمرات ليعيشوا "مع الفقراء".
هنا، لا بد من وقفة . أليس السكن في حي الأسمرات، الذي وفرته الدولة لمواطنيها، أكثر عزة وكرامة من الاستمرار في سكن يؤرق مالكه الأصلي، الذي ربما جعلته ذات القوانين الاستثنائية أشد فقراً من بعض مستأجريه الميسورين؟ يبدو أن "أغنياء المستأجرين" قرروا أخيراً الخروج من عباءة المستأجر المطحون، التي وفرت لهم غطاءً لعقود.
والأدهى من ذلك، أن هؤلاء السادة النواب، المؤتمنون على الدستور الذي أقسموا على احترامه، يبدو أنهم تناسوا أو تجاهلوا أن هذا الدستور ذاته، الذي كفل حق السكن للمواطن (المادة 78)، هو نفسه الذي صان حق الملكية الخاصة في المادتين (33 و35)، وحظر المساس بها إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل، فكيف يستقيم التشكيك في دستورية مشروع قانون حكومي يهدف لإعادة التوازن، والتغاضي عن شبهة عدم دستورية استمرار وضع يعتدي على حق الملكية لعقود؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد تشكيك هؤلاء التواب ليشمل قدرة الحكومة ومصداقيتها في الوفاء بتعهداتها بتوفير مساكن بديلة للمستأجرين غير القادرين، وهو تشكيك يطرح سؤالاً أكبر: أليس في هذا تحريضًا مبطنًا للمواطن على نبذ الثقة؟ والأكثر إثارة للدهشة، تلك الجرأة التي يستبيح بها البعض أموال وممتلكات المالكين وأبنائهم، وكأن ثمرة كد المالك وإرث أبنائه أصبحت مستباحة، لا حرمة لها، حتى بات المالكون على يقين بأن بعض هذه الأصوات النيابية لا تمثل إلا نفسها، أو مصالح فئة معينة، بعيداً كل البعد عن تمثيل حقيقي لمختلف أطياف الشعب، بمن فيهم الملاك الذين عانوا طويلاً.
ولم يخل الأمر من محاولات لغسل الأيدي من المسؤولية، فبعض النواب لم يستطع إخفاء قلقه، معلناً أن الحكومة "ألقت بكرة لهب في حجر المجلس" وتركتهم في مواجهة الشارع، بل وحذر أحدهم من أن هذا القانون قد "يفجر البلد"، وكأن هذا النائب مستعد للتضحية بمناصرة الحق، واحترام الدستور، والانحياز للباطل، إرضاءً لضغوط الشارع أو أصحاب النفوذ من صفوة المجتمع، وتجنباً لمواجهة قد تكلفه شعبيته.
يتشدق البعض بمفهوم "التوازن"، فيؤكد أحدهم أن "البرلمان لن يسمح بمرور قانون غير دستوري"، وهو قول نتفق معه جميعاً، فلا يمكن لمؤسسة تشريعية على رأسها قامة دستورية أن تسمح بتمرير قانون معيب، ولكن، ما هي ماهية هذا التوازن الذي يقصده النائب، وهو يستنكر الحق الدستوري الثابت في "صون الملكية"؟ أليس من أبجديات التوازن ألا يطغى حق على حق آخر؟ أم أن للنائب تفسيراً خاصاً للتوازن يتماشى مع رؤيته ومنظوره الضيق؟
إن مناقشات الإيجار القديم لم تعد مجرد نقاش حول بنود قانونية، بل أصبحت كاشفة عن أولويات، ومفصحة عن مدى التزام البعض بالمبادئ الدستورية والعدالة الاجتماعية الحقيقية، التي لا تفرق بين مواطن وآخر بناءً على قدرته على الصراخ أو ممارسة الضغط. لقد حان الوقت لأن يعلو صوت الحق، وأن تُعاد الحقوق لأصحابها، في إطار من العدالة التي لا تستثني أحداً، وتحترم دستور البلاد نصاً وروحاً.
ونؤكد أننا نحن مالكي العقارات القديمة، على ثقة بأن الإرادة السياسية وعزم الدولة «متمثلة في الحكومة ومؤسساتها العريقة» كفيلان بتصحيح الأوضاع وإنهاء الظلم الذي طال أمده.